حياة العزابة
لا شك في أن الشخص الذي يترك بيته وداره وأهله، ويضرب في فيافي الأرض، على متن طائرة أو عبر أمواج البحر في قلب السفن، أو على الطرق البرية القارية، لا شك في أنه يحيا حياة أخرى، حياة تخالف ما تطبع عليه وما تعود، وصدق المتنبئ في قوله «لكل إمرئ من دهره ما تعودا» ولكن عادات المرء، عندما يغادر موطنه عرضة للتغير والتبدل، وحتى اليوم لم نجد دراسة نفسية سلوكية أو اجتماعية، تتناول ما يحدث للمغترب من تغيرات تغلف حياته في مهجره وتطبعها بطابعها، ونحن مقلون في دراسة الظواهر المختلفة التي تستجد في حياتنا، ولا نخضع شيئا للدراسة العلمية والمنهجية، وقد يعتبر البعض القيام بمثل هذه الدراسات ضربا من ضروب الترف الاجتماعي، وأن الأجدر هو تصويب الجهد لما هو أهم، ولا ندري ما هو الأهم من هذه الملايين من البشر الذين كتب عليهم الضرب في أرض الله الواسعة، ومعاشرة أقوام وشعوب وبشر يختلفون عنا في كثير من الأمور، بدءاً بالمأكل والمشرب والملبس، مرورا بالعادات والتقاليد والقيم، وردود الأفعال تجاه كثير من المواقف، بمعنى أن السوداني قد يشاطرك في مشاعرك في كل ما يحدث لك، بينما قد ينظر اليك غيره نظرة لا مبالية، ثم هناك الحياة مع الآخرين في المساكن العامة «العزابة»، وأصناف السلوكيات واختلاف الأمزجة، وتفضيل هذا النوع من الطعام أو ذاك، فهناك النشط الواثق من نفسه «الخدوم» الذي يقوم بالعمل كله داخل بيت العزابة من طبخ ونظافة وغيرهما، دون أن يرجو جزاء ولا شكورا، وهؤلاء نادرون، ولهم دائما التقدير من البعض، والشفقة وربما الازدراء من البعض، وهناك من يريد أن يخدمه الآخرون فلا يحرك شيئا ولا يغسل طبقا أو ينظف «صحنا» ولا يسعده أن يعمل الآخرون.
وعلى ذلك تتمايز بيوت العزابة، فبيوت أولاد المدن أكثر نظافة وترتيبا، وبيوت أبناء الأقاليم والأرياف أكثر تواضعا وفوضى، ووجبات ونوعية الطبخ تتباين بين هؤلاء وأولئك، كما أنها تعكس طبيعة الإقليم، فأهل الجزيرة يميلون للكسرة، وأهل الشمالية يحرصون على القراصة، بينما تجد الحلويات والأسماك تتصدر موائد أولاد الخرطوم.