قال تعالى: ( لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم. ثم رددناه أسفل سافلين.الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) التين: 4- 6.
انّ الله جل جلاله أتقن كل شيء صنعه, وأحسن كل شيء خلقه, وانك( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) الملك: 3, من حيث كمال الخلق, ومع ذلك فقد خصّ الله الانسان في هذه الآية, وفي آيات أخرى بحسن التركيب, قال تعالى: ( في أيّ صورة ما شاء ركّبك) الانفطار:8, وبحسن التقويم: ( لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم) التين: 4, وبحسن التعديل: ( الذي خلقك فسواك فعدلك) الانفطار:7.
وهذا فضل عناية بهذا المخلوق المكرّم وإشارة الى أنّ لهذا الانسان شأنا عند الله عز وجل جلاله, وأنّ له وزنا في نظام الكون.
فهذا الانسان الذي اعتقد آلة في الكون, في خلاياه, وأنسجته, وفي أعضائه, وأجهزته في التعقيد, والدقّة, والاتقان ما يعجز عن فهم بنيتها, وطريقة عملها حقّ الفهم أعلم العلماء.
وفي هذا الانسان نفس تعتلج فيها المشاعر والعواطف, وتصطرع فيها الشّهوات والقيم, والحاجات, والمبادئ, حيث يعجز عن ادراك خصائصها تمام الادراك أعلم علماء النفس.
وفي هذا االانسان عقل, وفيه من المبادئ, والمسلّمات, والقوى الادراكية, والتحليلية, والابداعية ما يؤهّله ليكون سيّد المخلوقات وأفضلها, ( ولقد كرّمنا بني آدم) الاسراء: 70.
وممّا يبيّن أنّ الانسان خلق في أحسن تقويم جهاز المناعة المكتسب, أو خط الدفاع الثالث في جسم الانسان.
لقد خصّ المولى جل وعلا الانسان بأجهزة دفاع بالغة الدقة, وأوّل هذه الأجهزة الجلد, وهو درع سابغة على البدن, تردّ عنه الجراثيم, والأوبئة, وهو خطّ الدفاع الأول, وخصّ المولى جل وعلا كل عضو في الانسان, وكل جهاز, وكل حاسة بجهاز دفاع خاصّ به.
فالعين مثلا خصّت بالأهداب, والأجفان, والدمع, وهذه الأجهزة الخاصة هي خطّ الدفاع الثاني.
وأما خطّ الدفاع الثالث فهو الدم بجنوده من الكريات البيضاء, وعدد هذه الكريات التي هي جنود خطّ الدفاع الثالث خمسة وعشرون مليون كرية في أيام السّلم, ويتضاعف هذا العدد في حال الاستنفار, وقد يصل الى مئات الملايين في حال القتال, في فترة لا تتجاوز الساعات, أو الأيام, ولهذه الجيوش الجرّارة من الكريّات البيضاء سلاح اشارة مؤلف من بضع مواد كيماوية, يعدّ وسيلة الاتصال والتفاهم فيما بينها.
أمّا خطة جهاز المناعة في الدفاع عن الجسم فهي من الدقّة, والتنسيق, والفعالية, والذكاء الخارق, على نحو عجيب, انها خلايا الدم البيضاء, التي أدهشت العلماء, ان في نظام عملها, أو في توزيع الأدوار القتالية على أفرادها, أو في تحقيق المهمات المنوطة بها, فبعد ثوان معدودات من اجتياز أيّ جسم غريب لخطوط الدفاع الأولى والثانية تتوجّه الى الجسم الغريب.
وثمّة كريّات مهمّتها أخذ الشفة الكيماوية الخاصة بهذا العدوّ, والاحتفاظ بها, ثم نقلها الى المراكز اللمفاوية, حيث تقوم الخلايا المحصّنة بتفكيك رموز هذه الشفرة تمهيدا لصنع المصل المضادّ.
وبعد صنع المصل المضاد تتوجه الخلايا المقاتلة حاملة هذا السلاح, وهو المصل, لتهاجم به الجسم الغريب, وبعد أن تصرعه بهذا السلاح الفعّال تأتي الخلايا اللاقمة لتنظيف ساحة المعركة من بقايا جثث الأعداء, ليعود الدم كما كان نقيا سليما, وهذه الكرية البيضاء التي هي العنصر الأساسي في جهاز المناعة, لا يزيد قطرها على خمسة عشر ميكرونا, ( لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم) التين:4.
وهناك فرقة في هذا الجيش, اكتشفت حديثا, وهي فرقة المغاوير, التي بامكان عناصرها اكتشاف الخلية السرطانية في وقت مبكر جدا, ثم تلتهمها.
أما قوله سبحانه: ( ثم رددناه أسفل سافلين) التين:5 فانه يتحقق حينما ينحرف الانسان عن منهج ربه, ويستجيب لنداء غريزته من دون ضابط من شرع, أو رادع من فطرة, أو زاجر من عقل, وعند ذلك يبطل عمل هذا الجهاز, ويموت الانسان لأدنى مرض, وما مرض نقص المناعة المكتسب, الذي يهدّد العالم المتفلّت , الا تأكيد لهذه الحقيقة: ( ثم رددناه أسفل سافلين).